كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال: إذا كان يوم القيامة قام إبليس خطيبًا على منبر من نار فقال: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} إلى آخره، وعن مقاتل أن الكفار يجتمعون عليه في النار باللائمة فيرقى منبرًا من نار فيقول ذلك، وفي بعض الآثار ما هو ظاهر في أن هذا في الموقف، فقد أخرج الطبراني وابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن عساكر لكن بسند ضعيف من حديث عقبة بن عامر يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الكفار حين يروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين يأتون إبليس فيقولون له قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد فيقول ما قص الله تعالى».
ومعنى {وَعْدَ الحق} وعدًا من حقه أن ينجز أو وعدًا نجز وهو الوعد بالبعث والجزاء، وقيل: أراد بالحق ما هو صفته تعالى أي أن الله تعالى وعدكم وعده الذي لا يخلف، والظاهر أنه صفة الوعد، وفي الآية على الأول إيجاز أي أن الله سبحانه وعدكم وعد الحق فوفاكم وأنجزكم ذلك {وَوَعَدتُّكُمْ} وعد الباطل وهو أن لا بعث ولا حساب ولئن كانا فالأصنام تشفع لكم {فَأَخْلَفْتُكُمْ} موعدي أي لم يتحقق ما أخبرتكم به وظهر كذبه، وقد استعير الإخلاف لذلك ولو جعل مشاكلة لصح {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان} أي تسلط أو حجة تدل على صدقي {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ} أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة، وهذا وإن لم يكن من جنس السلطان حقيقة لكنه أبرزه في مبرزه وجعله منه ادعاء فلذا كان الاستثناء متصلًا، وهو من تأكيد الشيء بضده كقوله:
وخيل قد دلفت لها بخيل ** تحية بينهم ضرب وجيع

وهو من التهكم لا من باب الاستعارة أو التشبيه أو غيرهما على ما حقق في موضعه، فإن لم يعتبر فيه التهكم والادعاء يكون الاستثناء منقطعًا على حد قوله:
وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير وإلا العيس

وإلى الانقطاع ذهب أبو حيان وقال: إنه الظاهر، وجوز الإمام القول بالاتصال من غير اعتبار الادعاء؛ ووجه ذلك بأن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة تكون بالقهر من الحامل وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بإلقاء الوسواس إليه وهذا نوع من أنواع التسلط فكأنه قال: ما كان لي تسلط عليكم إلا بالوسوسة لا بالضرب ونحوه {فاستجبتم لِى} أي أسرعتم إجابتي كما يؤذن بذلك الفاء، وقيل: يستفاد الإسراع من السين لأن الاستجابة وإن كانت بمعنى الإجابة لكن عد ذلك من التجريد وأنهم كأنهم طلبوا ذلك من أنفسهم فيقتضي السرعة وفيه بعد {فَلاَ تَلُومُونِى} بوعدي إياكم حيث لم يكن على طريق القسر والإلجاء كما يدل عليه الفاء، وقيل: بوسوستي فإن من صرح بالعداوة وقال: {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] لا يلام بأمثال ذلك.
وقرئ {فَلا} بالياء على الالتفات {تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} حيث استجبتم لي باختباركم الناشيء عن سوء استعدادكم حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل بل بمجرد تزيين وتسويل ولم تستجيبوا لربكم إذ دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبينات والحجج، وليس مراد اللعين التنصل عن توجه اللائمة إليه بالمرة بل بيان أنهم أحق بها منه.
وفي الكشاف أن في هذه الآية دليلًا على أن الإنسان هو الذي يختاره الشقاوة والسعادة ويحصلهما لنفسه وليس من الله تعالى إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن الله تعالى قد قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه، وليس قوله المحكي باطلًا لا يصح التعلق به وإلا لبين الله سبحانه بطلانه وأظهر إنكاره، على أنه لا طائل في النطق بالباطل في ذلك المقام، ألا ترى كيف أتى بالصدق الذي لا ريب فيه في قوله: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ} إلى آخره.
وقوله: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ} إلى آخره اهـ.
واعترض قوله: وإلا لبين سبحانه بطلانه بأنه ينقلب عليه في قول المستكبرين: {لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ} [إبراهيم: 21] إذ لم يعقب بالبطلان على وجه التوريك الذي ادعاه، وكذلك قوله: على أنه لا طائل إلى آخره.
والجواب أن الأول غير متعين لذلك الوجه كما سمعت، ومع ذلك قد عقب بالبطلان في مواضع عديدة، ويكفي حكاية الكذب عنهم في ذلك الموطن، وذلك في الموطن على توهم أنه نافع كما حكى الله تعالى عنهم، أما بعد قضاء الأمر ودخول أهل الجنة الجنة والنار النار فلا يتوهم لذلك طائل البتة؛ لاسيما والشيطان لا غرض له في ذلك فافترقا قائلًا وموطنًا وحكمًا، بل الجواب أن أهل الحق لا ينكرون توجه اللائمة عليهم وأن الله تعالى مقدس عن ذلك وحجته البالغة وقضاؤه سبحانه الحق، حيث أثبتوا للعبد القدرة الكاسبة التي يدور عليها فلك التكليف وجعلوا لها مدخلًا في ذلك فإنه سبحانه إنما يخلق أفعاله حسبما يختاره، وسلبهم التأثير الذاتي عن قدرته لا ينفي اللوم عنهم كما بين في محله، وما ذكره من أنه لو كان الأمر إلى آخره مبني على عدم الفرق بين مذهب أهل الحق الملقبين عنده بالمجبرة وبين مسلك المجبرة في الحقيقة والفرق مثل الصبح ظاهر، هذا واستدل بظاهر الآية على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان أو تعويج أعضائه وجوارحه أو على إزالة عقله لأنه نفى أن يكون له تسلط إلا بالوسوسة.
وأجاب من زعم القدرة على نحو ذلك بأن المقصود في الآية نفى أن يكون له تسلط في أمر الإضلال إلا بمحض الوسوسة لا نفي أن يكون له تسلط أصلًا والسياق أدل قرينة على ذلك.
وانتزع بعضهم من الآية إبطال التقليد في الاعتقاد، قال ابن الفرس: وهو انتزاع حسن لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه ولم يطلبوا منه برهانًا فحكى ذلك متضمنًا لذمهم، ثم الظاهر أن هذه الدعوة من الشيطان أعني إبليس بلا واسطة، وهي إن كانت في وقت واحد لمتعددين مما يعسر تصوره، ولا يبعد أن يقال: إن له أعوانًا يفعلون كما يفعل لكن لما كان ذلك بأمره تصدى وحده لما تصدى ونسبت الدعوة إليه، وللإمام الرازي في الآية كلام طويل ساقه لبيان كيفية الدعوة وإلقاء الشيطان الوسوسة في قلب الإنسان، وأكثره عند المحدثين والسلف الصالحين أشبه شيء بوساوس الشياطين، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ذلك بعون الله تعالى القادر المالك {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب، يقال: استصرخني فأصرخته أي استغاثني فأغثته، وأصله من الصراخ وهو مد الصوت، والهمزة للسلب كأن المغيث يزيل صراخ المستغيث.
{وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ} مما أنا فيه، وفي تعرضه لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمال مبالغة في بيان عدم إصراخه إياهم وإيذان بأنه أيضًا مبتلى بمثل ما ابتلوا به ومحتاج إلى الإصراخ فكيف له بإصراخ الغير ولذلك آثر الجملة الاسمية، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وكذا يقال في التأكيد فكان ما مضى جوابًا منه عن توبيخهم وتقريعهم وهذا جواب استغاثتهم واستعانتهم به في دفع ما دهمهم من العذاب.
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة {بِمُصْرِخِىَّ} بكسر الياء على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، وذلك أن الأصل بمصرخين لي فأضيف وحذفت نون الجمع للإضافة فالتقت ياء الجمع الساكنة وياء المتكلم والأصل فيها السكوت فكسرت لالتقاء الساكنين وأدغمت.
وطعن في هذه القراءة كثير من النحاة، قال الفراء: لعلها من زعم القراء فإنه قل من سلم منهم من الوهم.
وقال أبو عبيد: نراهم غلطوا، وقال الأخفش: ما سمعت هذا الكسر من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين، وقال الزجاج: إنها عند الجميع رديئة مرذولة ولا وجه لها إلا وجيه ضعيف.
وقال الزمخشري: هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول:
قال لها هل لك يا تافي ** قالت له ما أنت بالمرضي

وكأنهم قدروا ياء الإضافة ساكنة فحركوها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو عصاي فما بالها وقبلها ياء والقول بأنه جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل ذهاب إلى القياس وهو قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات اهـ.
وقد قل هؤلاء الطاغين جماعة، وقد وهموا طعنًا وتقليدًا فإن القراءة متواترة عن السلف والخلف فلا يجوز أن يقال فيها: إنها خطأ أو قبيحة أو رديئة، وقد نقل جماعة من العلماء أنها لغة لكنه قل استعمالها.
ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع فإنهم يكسرون ياء المتكلم إذا كان قبلها ياء أخرى ويصلونها بها كعليه ولديه، وقد يكتفون بالكسرة وذلك لغة أهل الموصل وكثير من الناس اليوم، وقد حسنها أبو عمرو وهو إمام لغة وإمام نحو وإمام قراءة وعربيّ صحيح، ورووا بيت النابغة:
عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة ** لوالده ليست بذات عقارب

بكسر ياء على فيه، وأنشدوا لذلك أيضًا البيت السابق وهو للأغلب العجلي، وجهل الزمخشري به كالزجاج لا يلتفت إليه، وقوله: إن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة إلى آخره مردود بأنه روى سكون الياء بعد الألف، وقرأ به القراء في {محياي} [الأنعام: 162] وما ذكره أيضًا قياس مع الفارق فإنه لا يلزم من كسرها مع الياء المجانسة للكسرة كسرها مع الألف الغير المجانسة لها ولذا فتحت بعدها للمجانسة وكون الأصل في هذه الياء الفتح في كل موضع غير مسلم كيف وهي من المبنيات والأصل في المبنى أن يبني على السكون.
ومن الناس من وجه القراءة بأنها على لغة من يزيد ياء على ياء الإضافة إجراءً لها مجرى هاء الضمير وكافة، فإن الهاء قد توصل بالواو إذا كانت مضمومة كهذا لهو وضربهو، وبالياء إذا كانت مكسورة نحو بهى، والكاف قد تلحقها الزيادة فيقال أعطيتكاه وأعطيتكيه إلا أنه حذفت الياء هنا اكتفاءً بالكسرة، وقال البصير: كسر الياء ليكون طبقًا لكسر الهمزة في قوله: {بِمُصْرِخِىَّ إِنّى كَفَرْتُ} لأنه أراد الوصل دون الوقف والابتداء بذلك والكسر أدل على الوصل من الفتح وفيه نظر، وبالجملة لا ريب في صحة تلك القراءة وهي لغة فصيحة، وقد روي أنه تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث بدء الوحي وشرح حاله عليه الصلاة والسلام لورقة بن نوفل رضي الله تعالى عنه فإنكارها محض جهالة، وأراد بقوله: {إِنّى كَفَرْتُ} إني كفرت اليوم {بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} أي من قبل هذا اليوم يعني في الدنيا.
و{مَا} مصدرية و{مِنْ} متعلقة بأشركتموني أي كفرت بإرشراككم إياي لله تعالى في الطاعة لأنهم كانوا يطيعونه في أعمال الشر كما يطاع الله تعالى أعمال الخير، فالإشراك استعارة بتشبيه الطاعة به وتنزيلها منزلته أو لأنهم لما أشركوا الأصنام ونحوها بإيقاعه لهم في ذلك فكأنهم أشركوه، والكفر مجاز عن التبري كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14] ومراد اللعين أنه إن كان إشراككم لي بالله تعالى هو الذي أطمعكم في نصرتي لكم وخيل إليكم أن لكم حقًا علي فإني تبرأت من ذلك ولم أحمده فلم يبق بيني وبينكم علاقة، وإرادة اليوم حسبما ذكرنا هو الظاهر فيكون الكلام محمولًا على إنشاء التبري منهم يوم القيامة.
وجوز النسفي أن يكون إخبارًا عن أنه تبرأ منهم في الدنيا فيكون {مِن قَبْلُ} متعلقًا بكفرت أو متنازعًا فيه.
وجوز غير واحد أن تكون {مَا} موصولة بمعنى من كما قيل في قولهم: سبحانه ما سخر كن لنا، والعائد محذوف و{مِن قَبْلُ} متعلق بكفرت أي إني كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم عليه السلام بالذي أشركتمونيه أي جعلتموني شريكًا له بالطاعة وهو الله عز وجل، فأشرك منقول من شركت زيدًا للتعدية إلى مفعول ثان، والكلام على هذا إقرار من اللعين بقدم كفره وبيان لأن خطيئته سابقة عليهم فلا إغاثة لهم منه فهو في المعنى تعليل لعدم إصراخه إياهم.
وزعم الإمام أنه لنفي تأثير الوسوسة كأنه يقول: لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت قبل أن وقعتم في الكفر بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة، وكان الظاهر على هذا تقديمه على قوله: {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} إلى آخره ولا يظهر لتأخيره نكتة يهش لها الخاطر.
ومنهم من جعله تعليلًا لعدم إصراخهم إياه وهو مما لا وجه له إذ لا احتمال لذلك حتى يحتاج إلى التعليل، وقيل: لأن تعليل عدم إصراخهم بكفره يوهم أنهم بسبيل من ذلك لولا المانع من جهته.
واعترض بأن نحو هذا الإيهام جار في الوجه الأول وهم الكفرة الذين لا تنفعهم شفاعة الشافعين.
وتعقب في البحر القول بالموصولية بأن فيه إطلاق {مَا} على الله تعالى والأصح فيها أنها لا تطلق على آحاد من يعلم، و{مَا} في سبحان ما سخركن يجوز أن تكون مصدرية بتقدير مضاف أي سبحان موجد أو ميسر تسخير كن لنا.
وقال الطيبي: إن {مَا} لا تستعمل في ذي العلم إلا باعتبار الوصفية فيه وتعظيم شأنه والمثال على ذلك أي سبحان العظيم الشأن الذي سخركن للرجال مع مكركن وكيدكن، وكون {مَا} موصولة عبارة عن الصنم أي إني كفرت بالصنم الذي إشركتمونيه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه {إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الظاهر أنه من تمام كلام إبليس قطعًا لأطماع الكفار من الإغاثة والإعانة، وحكى الله تعالى عنه ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون تنبيهًا للسامعين وحثًا لهم على النظر في عاقبتهم والاستعداد لما لابد منه وأن يتصوروا ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول فيخافوا ويعملوا ما ينفعهم هناك، وقيل: إنه من كلام الخزنة يوم ذاك، وقيل: إنه ابتداء كلام من جهته تعالى، وأيد بأنه قرأ الحسن.
وعمرو بن عبيد {ادخل} في قوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}.
بصيغة المضارع المسند إلى المتكلم.
وأنت تعلم أنه إذا اعتبرت هذه القراءة مؤيدة لهذا القول فلتعتبر قراءة الجمهور {ادخل} بصيغة الماضي المبني للمفعول مؤيدة لما قبله فإن المدخلين الملائكة عليهم السلام فتأمل، وكأن الله تعالى لما جمع الفريقين في قوله سبحانه: {وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم: 21] وذكر شيئًا من أحوال الكفار ذكر ما آل إليه أمر المؤمنين من إدخالهم الجنة {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} أي بأمره سبحانه أو بتوفيقه وهدايته جل شأنه، والجار والمجرور متعلق بأدخل على قراءة الجمهور.
وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار مزيد اللطف بهم، وعلقه جماعة على القراءة الأخرى بقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} أي يحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم.
وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل بحرف مصدري وفعل عليه وهو غير جائز لما أن ذلك في حكم تقديم جزء من الشيء المرتب الأجزاء عليه.
ورد بأن الظاهر أنه هنا غير منحل إليهما لأنه ليس المعنى المقصود منه أن يحيوا فيها بسلام، ولو سلم فمراد القائل بالتعلق التعلق المعنوي فالعالم فيه فعل مقدر يدل عليه {تَحِيَّتُهُمْ} أي يحيون بإذن ربهم.
وقال العلامة الثاني: الأظهر أن التقديم جائز إذا كان المعمول ظرفًا أو شبهه وهو في الكلام كثير، والتقدير تكلف، وليس كل مؤول بشيء حكمه حكم ما أول به، مع أن الظرف مما يكفيه رائحة من الفعل لأن له شأنًا ليس لغيره لتنزله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه وعدم انفكاكه عنه، ولهذا اتسع في الظروف ما لم يتسع في غيرها اهـ، وبالجواز أقول، وإنما لم يجعله المحققون متعلقًا بأدخل على تلك القراءة مع أنه سالم من الاعتراض ومشتمل على الالتفات أو التجريد وهو من المحسنات لأن قولك: أدخلته بإذني ركيك لا يناسب بلاغة التنزيل، والالتفات أو التجريد حاصل إذا علق بما بعده أيضًا.
وفي الانتصاف الصارف عن هذا الوجه هو أن ظاهر {ادخل} بلفظ المتكلم يشعر بأن إدخالهم الجنة لم يكن بواسطة بل من الله تعالى مباشرة وظاهر الإذن يشعر بإضافة الدخول إلى الواسطة فبينهما تنافر، واستحسن أن يعلق بخالدين والخلود غير الدخول فلا تنافر، وتعقبه في الكشف بأن ذلك لا يدفع الركاكة وكأنه لما أن الأذن للدخول لا للاستمرار بحسب الظاهر، وكون المراد بمشيئتي وتيسيري لا يدفع ذلك عند التأمل الصادق، فما ذهب إليه ابن جني واستطيبه الشيخ الطيبي وارتضاه ليس بشيء لمن سلم له ذوقه. اهـ.